استدراج
صفحة 1 من اصل 1
استدراج
[الكاتب: محمد مصطفى المقرئ]
المسافة بين مصطلح الاعتدال ودلالته في زماننا هذا؛ جد شاسعة، ذلك أنه لم يعد - في ظلاله وإيحاءاته ورمزيته - كما هو في أصل معناه الشرعي؛ وسطية أو توسطاً أو قواماً بين الإفراط والتفريط، أو لنقل: أريدَ له أن لا يكون كذلك!
وهذا فصام لم يعانه الاعتدال وحده... فمنذ أنزلت هذه الشريعة الغراء، وأعداؤها لا يكفون عن تفريغ مصطلحاتها من مضامينها، أو تشويه تلك المضامين، وعلى التوازي منه؛ يتم استدراج حملة الشريعة إلى تقليصها واختزالها وتمييع قضاياها، ذلك عبر مسلسل من التنازلات يتدرج من القليل إلى الكثير، ومن الكثير إلى الأكثر... قال تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 73 - 74].
والذي يجب أن يقرر هنا - قبل أن ندلف إلى صلب موضوعنا - هو:
أولاً:
أن الشريعة ذات الشريعة - كما أمر بها ربنا عز وجل - وسَطٌ كلُّها... وبها كانت هذه الأمة أمة وسطاً... قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة : 143]، وسطاً: أي عدلاً، فوسط الشيء: أفضله وأعدله
ومنه: الحديث: (خَيْرُ الأمُورِ أَوْسَطُهَا) [1].
ومعنى الوسط - في أصل اللغة - أنه: اسم لما بين طرفي الشيء وهو منه.
ثانياً:
أن أخذ الشريعة على الوجه المأمور به شرعاً بل بأقصى ما تمتثلُ به - من جهة التمام والكمال والعزيمة وقوة الأخذ لأحكامها - هو عين المأمور به شرعاً، وهو ما كلف الله تعالى به أنبياءه وأتباعهم أو ندبهم إليه، كما في قوله لموسى عليه السلام: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]، وقوله ليحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم : 12]، وقوله لبني إسرائيل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63].
وفي شريعتنا؛ يندبنا الشارع الحكيم إلى الأخذ بالعزائم، حيث جُوِزَتْ الرخص.
فيا للعجب أن نجد أكثر كلام المتكلمين عن التوسط والاعتدال يَنْصَبُّ على استنكار أخذ الدين بقوة، وربما ساقوا اعتراضاتهم أحياناً وبحق في مقابلة التشدد، في حين يُقِلُّون من ذلك أو يُعدَمونه في مواجهة التساهل والتسيب، مع أن حَمْدَ التوسط يقتضي ذمَّ طرفي الإفراط والتفريط كليهما.
وفي محكم التنزيل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج : 11]، و {عَلَى حَرْفٍ}: أي على شك، فهو على طرف من دينه غيرُ متوسط فيه ولا متمكن.
ثالثاً:
أن التوسط الذي مرجعه تقديرات الناس - وهو ما لا يقع تحت طائلة الأحكام النصية - هو - على التحديد - الموضع الذي تنازع الناس فيه، ذلك إن شئت تحرير خلافهم في مسألة التوسط، وإنها للدائرة التي ينبغي أن يُحصر الخلاف فيها، وإلا جعلنا الأحكام الشرعية الثابتة بطريق النص أو الإجماع عرضة لأن تُرمى بالتشدد والغلو والخروج عن حد الاعتدال، ومن ثمَّ يُخضع التدينُ الإسلامي كله لتصورات الناس ومفاهيمهم، بل ولمناهج "الحداثيين" وأشباههم، لتجد دعوى "تجديد الخطاب الديني" موضعاً لها بين رؤوس بعض قومنا، وليبسط "الاعتدال" - بمفهومه "الحداثي" - هيمنته على أصول الدين فضلاً عن أحكامه.
والإشكالية هنا؛ أن "الاعتدال" - بمفهومه المحدث المروج له عن عمد وسوء نية - بات يمثل عقلية أو نفسية جديدة داخل صفنا الإسلامي، سيما مع ما ظهر من قدراته السحرية على إفساح المجال أمام أصحابه، مما ساهم في كسر طوق الحصار المفروض على الإسلاميين، إعلامياً وسياسياً على الأقل، فكان في اعتماده لدى البعض مخرجاً من ذاك الحصار، متوافقاً مع ما استقر لديهم من منهجية الترخص والدوران مع المصلحة - وإن ضد النص - حيث دارت.
ولنعد إلى ما نحن فيه...
لقد وُجِدَ في "الاعتدال" - بمفهومه الفضفاض - ضالة طالما تربص أعداء الإسلام بنا بغية اغتنامها، يريدون ليختلسوا بها تصورنا لشريعتنا شيئاً فشيئاً، وليتآكل إيماننا على إثر ذلك شيئاً فشيئاً... وهل يُغوِي الشيطانُ ابنَ آدم إلا شيئاً فشيئاً؟
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 8]، فأمر بالدخول في الإسلام كله، أي؛ في شرائعه جميعها، وبين أن الشيطان لعنه الله يستدرج المؤمنين إلى أودية غيه خطوة خطوة.
وفي موضع آخر قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور : 21]، وقال: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 168 - 169]، فبين أن عدو الله والمؤمنين لا يكتفي بإيقاع عباد الله في حبائله ومصائده حتى يبلغ بهم أن يتكلموا بمراد الشيطان، ويفتوا به، ويدعوا إليه ويقولوا على الله ما لا يعلمون.
وقد أحاطت فضائياتنا نفسها بدوائر حمراء متداخلة، بينما أضفت على تلك الدوائر مسحة "الاعتدال" المزعوم، ومن ثَمَّ لا تَمنحُ جوازَ مُرورٍ إليها أو تأشيرةَ دخول إلى دوائرها تلك إلا مَن كان من "المعتدلين"! وكلما دلف أحد الطيبين إلى الدائرة الأوسع، ورأى ما هنالك من مصلحة دعوية تتمثل في خطابه المتابَع من ملايين الناس - مشاهدين أو سامعين أو قارئين -؛ راودته الإعلاميات والفضائيات عن دخول دائرتها الأضيق، وحصرته في ركن التخير بين أمرين اثنين لا ثالث لهما: إما أن يقبل بالدخول في تلك الدائرة الأشد اختزالاً للشريعة المطهرة، طبقاً لمفهوم "الاعتدال" الفضفاض المتآكل الآخذ في التضاؤل، وإما أن يُسلب المصلحة الدعوية شديدة الإغراء - مخاطبة الملايين - ومن ثم يفقد لقبَ "المعتدل"، فينبذ مع "المتشددين"، ويُعاد منفياً إلى المناطق المعتمة من المشهد الإعلامي "المستنير".
ولقد يكون لعلمائنا ودعاتنا سعة في الموازنة بين طرفي المعادلة الصعبة، ولكني لا أحسب أنهم في سعة إن تكلموا بباطل، حيث يطلب منهم أن يكتموا بعض الحق، أليس يسعهم السكوت إذاً؟
وكذلك قد يلتزم بعض إخواننا - ممن نحبهم ونحترمهم - أن لا ينطقوا بباطل، غير أني أخشى عليهم - إن لم يكن لهم بيان للحق ولو في غير هذه المنابر "الاعتدالية" - أن يوظف مجرد ظهورهم فيها بأنه إقرار منهم لما يقال في تلك الأخيرة، أو أن يظن الناس ذلك فيفتنوا بهم فيما يقوله غيرهم...
وهذا قدر من التلبيس يبتغيه الموظِِّفون لـ "الاعتدال"، فأولئك يبتغون ضرب فكر دعاة مخالفين، مستخدمين في ذلك دعاة آخرين، بوعي منهم أو بغير وعي، كما قيل: "لا محبة لعمرو، ولكن كراهية لزيد"، ولا رضاً منهم بالقدر المطروح، ولكن تهميشاً للقدر غير المسموح، وطعناً عليه، وصداً للناس عنه، فإنهم لا يقبلون ما اتفق ودوائرهم الحمراء نفسه إلا على مضض وتضجر، متصبرين عليه ومتسلين عن استثقالهم له... بما يتوقعونه من مصادرة للرأي الآخر، ولكل ما لا يدخل تحت مفهومهم عن الاعتدال، وما لا يضرب اليوم، يضرب غداً، وما لا يستدرج إليه الطيبون الآن، سيغرون به؛ فيبتغونه هم ولو بعد حين.
22/3/2006 م
--------------------------------------------------------------------------------
1) أخرجه الحافظ العراقي، وقال: مرسل، انظر"المغني عن حمل الأسفار"، بهامش "إحياء علوم الدين": 3/9، والشوكاني في"الفوائد المجموعة": 251، بإسناد معضل، والسخاوي - بلا إسناد - عن ابن عباس في "المقاصد الحسنة": 246، بلفظ: (خير الأعمال أوسطها).
المسافة بين مصطلح الاعتدال ودلالته في زماننا هذا؛ جد شاسعة، ذلك أنه لم يعد - في ظلاله وإيحاءاته ورمزيته - كما هو في أصل معناه الشرعي؛ وسطية أو توسطاً أو قواماً بين الإفراط والتفريط، أو لنقل: أريدَ له أن لا يكون كذلك!
وهذا فصام لم يعانه الاعتدال وحده... فمنذ أنزلت هذه الشريعة الغراء، وأعداؤها لا يكفون عن تفريغ مصطلحاتها من مضامينها، أو تشويه تلك المضامين، وعلى التوازي منه؛ يتم استدراج حملة الشريعة إلى تقليصها واختزالها وتمييع قضاياها، ذلك عبر مسلسل من التنازلات يتدرج من القليل إلى الكثير، ومن الكثير إلى الأكثر... قال تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 73 - 74].
والذي يجب أن يقرر هنا - قبل أن ندلف إلى صلب موضوعنا - هو:
أولاً:
أن الشريعة ذات الشريعة - كما أمر بها ربنا عز وجل - وسَطٌ كلُّها... وبها كانت هذه الأمة أمة وسطاً... قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة : 143]، وسطاً: أي عدلاً، فوسط الشيء: أفضله وأعدله
ومنه: الحديث: (خَيْرُ الأمُورِ أَوْسَطُهَا) [1].
ومعنى الوسط - في أصل اللغة - أنه: اسم لما بين طرفي الشيء وهو منه.
ثانياً:
أن أخذ الشريعة على الوجه المأمور به شرعاً بل بأقصى ما تمتثلُ به - من جهة التمام والكمال والعزيمة وقوة الأخذ لأحكامها - هو عين المأمور به شرعاً، وهو ما كلف الله تعالى به أنبياءه وأتباعهم أو ندبهم إليه، كما في قوله لموسى عليه السلام: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]، وقوله ليحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم : 12]، وقوله لبني إسرائيل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63].
وفي شريعتنا؛ يندبنا الشارع الحكيم إلى الأخذ بالعزائم، حيث جُوِزَتْ الرخص.
فيا للعجب أن نجد أكثر كلام المتكلمين عن التوسط والاعتدال يَنْصَبُّ على استنكار أخذ الدين بقوة، وربما ساقوا اعتراضاتهم أحياناً وبحق في مقابلة التشدد، في حين يُقِلُّون من ذلك أو يُعدَمونه في مواجهة التساهل والتسيب، مع أن حَمْدَ التوسط يقتضي ذمَّ طرفي الإفراط والتفريط كليهما.
وفي محكم التنزيل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج : 11]، و {عَلَى حَرْفٍ}: أي على شك، فهو على طرف من دينه غيرُ متوسط فيه ولا متمكن.
ثالثاً:
أن التوسط الذي مرجعه تقديرات الناس - وهو ما لا يقع تحت طائلة الأحكام النصية - هو - على التحديد - الموضع الذي تنازع الناس فيه، ذلك إن شئت تحرير خلافهم في مسألة التوسط، وإنها للدائرة التي ينبغي أن يُحصر الخلاف فيها، وإلا جعلنا الأحكام الشرعية الثابتة بطريق النص أو الإجماع عرضة لأن تُرمى بالتشدد والغلو والخروج عن حد الاعتدال، ومن ثمَّ يُخضع التدينُ الإسلامي كله لتصورات الناس ومفاهيمهم، بل ولمناهج "الحداثيين" وأشباههم، لتجد دعوى "تجديد الخطاب الديني" موضعاً لها بين رؤوس بعض قومنا، وليبسط "الاعتدال" - بمفهومه "الحداثي" - هيمنته على أصول الدين فضلاً عن أحكامه.
والإشكالية هنا؛ أن "الاعتدال" - بمفهومه المحدث المروج له عن عمد وسوء نية - بات يمثل عقلية أو نفسية جديدة داخل صفنا الإسلامي، سيما مع ما ظهر من قدراته السحرية على إفساح المجال أمام أصحابه، مما ساهم في كسر طوق الحصار المفروض على الإسلاميين، إعلامياً وسياسياً على الأقل، فكان في اعتماده لدى البعض مخرجاً من ذاك الحصار، متوافقاً مع ما استقر لديهم من منهجية الترخص والدوران مع المصلحة - وإن ضد النص - حيث دارت.
ولنعد إلى ما نحن فيه...
لقد وُجِدَ في "الاعتدال" - بمفهومه الفضفاض - ضالة طالما تربص أعداء الإسلام بنا بغية اغتنامها، يريدون ليختلسوا بها تصورنا لشريعتنا شيئاً فشيئاً، وليتآكل إيماننا على إثر ذلك شيئاً فشيئاً... وهل يُغوِي الشيطانُ ابنَ آدم إلا شيئاً فشيئاً؟
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 8]، فأمر بالدخول في الإسلام كله، أي؛ في شرائعه جميعها، وبين أن الشيطان لعنه الله يستدرج المؤمنين إلى أودية غيه خطوة خطوة.
وفي موضع آخر قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور : 21]، وقال: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 168 - 169]، فبين أن عدو الله والمؤمنين لا يكتفي بإيقاع عباد الله في حبائله ومصائده حتى يبلغ بهم أن يتكلموا بمراد الشيطان، ويفتوا به، ويدعوا إليه ويقولوا على الله ما لا يعلمون.
وقد أحاطت فضائياتنا نفسها بدوائر حمراء متداخلة، بينما أضفت على تلك الدوائر مسحة "الاعتدال" المزعوم، ومن ثَمَّ لا تَمنحُ جوازَ مُرورٍ إليها أو تأشيرةَ دخول إلى دوائرها تلك إلا مَن كان من "المعتدلين"! وكلما دلف أحد الطيبين إلى الدائرة الأوسع، ورأى ما هنالك من مصلحة دعوية تتمثل في خطابه المتابَع من ملايين الناس - مشاهدين أو سامعين أو قارئين -؛ راودته الإعلاميات والفضائيات عن دخول دائرتها الأضيق، وحصرته في ركن التخير بين أمرين اثنين لا ثالث لهما: إما أن يقبل بالدخول في تلك الدائرة الأشد اختزالاً للشريعة المطهرة، طبقاً لمفهوم "الاعتدال" الفضفاض المتآكل الآخذ في التضاؤل، وإما أن يُسلب المصلحة الدعوية شديدة الإغراء - مخاطبة الملايين - ومن ثم يفقد لقبَ "المعتدل"، فينبذ مع "المتشددين"، ويُعاد منفياً إلى المناطق المعتمة من المشهد الإعلامي "المستنير".
ولقد يكون لعلمائنا ودعاتنا سعة في الموازنة بين طرفي المعادلة الصعبة، ولكني لا أحسب أنهم في سعة إن تكلموا بباطل، حيث يطلب منهم أن يكتموا بعض الحق، أليس يسعهم السكوت إذاً؟
وكذلك قد يلتزم بعض إخواننا - ممن نحبهم ونحترمهم - أن لا ينطقوا بباطل، غير أني أخشى عليهم - إن لم يكن لهم بيان للحق ولو في غير هذه المنابر "الاعتدالية" - أن يوظف مجرد ظهورهم فيها بأنه إقرار منهم لما يقال في تلك الأخيرة، أو أن يظن الناس ذلك فيفتنوا بهم فيما يقوله غيرهم...
وهذا قدر من التلبيس يبتغيه الموظِِّفون لـ "الاعتدال"، فأولئك يبتغون ضرب فكر دعاة مخالفين، مستخدمين في ذلك دعاة آخرين، بوعي منهم أو بغير وعي، كما قيل: "لا محبة لعمرو، ولكن كراهية لزيد"، ولا رضاً منهم بالقدر المطروح، ولكن تهميشاً للقدر غير المسموح، وطعناً عليه، وصداً للناس عنه، فإنهم لا يقبلون ما اتفق ودوائرهم الحمراء نفسه إلا على مضض وتضجر، متصبرين عليه ومتسلين عن استثقالهم له... بما يتوقعونه من مصادرة للرأي الآخر، ولكل ما لا يدخل تحت مفهومهم عن الاعتدال، وما لا يضرب اليوم، يضرب غداً، وما لا يستدرج إليه الطيبون الآن، سيغرون به؛ فيبتغونه هم ولو بعد حين.
22/3/2006 م
--------------------------------------------------------------------------------
1) أخرجه الحافظ العراقي، وقال: مرسل، انظر"المغني عن حمل الأسفار"، بهامش "إحياء علوم الدين": 3/9، والشوكاني في"الفوائد المجموعة": 251، بإسناد معضل، والسخاوي - بلا إسناد - عن ابن عباس في "المقاصد الحسنة": 246، بلفظ: (خير الأعمال أوسطها).
الانصاري- المساهمات : 30
تاريخ التسجيل : 03/11/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى