الدعوة و التنظيم؛ بين السرية و الجهرية
صفحة 1 من اصل 1
الدعوة و التنظيم؛ بين السرية و الجهرية
[الكاتب: أبو سعد العاملي] |
بسم الله الرحمن الرحيم، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. وبعد: نظراً لتباين الآراء حول هذه المسألة الهامة، أردت أن أدلي بدلوي - رغم قلة بضاعتي - في هذا الموضوع الخطير والهام، لعله يفتح باباً للحوار بين مختلف العاملين لهذا الدين، ولعله يغطي شيئاً من النقص الموجود، ويفتح أبواباً كانت مغلقة لكل العاملين والدعاة إلى الله والمجاهدين في سبيله، أسأل الله التوفيق والسداد. مفهوم الدعوة: قبل البدء في الحديث عن كيفية مزاولة الدعوة، أود في البداية تعريف هذا المصطلح الذي أصبح من أكثر المصطلحات ميوعة في أوساط العمل الاسلامي، وأصبح لدى الكثيرين صنماً يعبد من دون الله، وعصا يلوح بها الجميع يتخفون وراءها ويحتمون بها حتى وإن زاغوا عن النهج القويم وابتدعوا في الدين. فما هو يا ترى المفهوم الحقيقي والشرعي المقبول للدعوة؟ بعبارة أخرى؛ ما هي الدعوة المقبولة شرعاً وما هي الدعوة المرفوضة شرعاً؟ إلى ماذا يجب أن ندعو الناس؟ وكيف ينبغي التعامل مع المدعوين؟ هل نتنازل عن بعض المبادئ الأصلية من الدين في سبيل إرضاء هؤلاء المدعوين حتى نكسبهم؟ أم أنه ينبغي الحفاظ على المبادئ أولاً حتى وإن تعارضت مع أهواء ورغبات المدعوين؟ إن الدعوة، يجب أن تكون إلى الله وإلى دينه {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}، وقوله تعالى {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}... فالدعوة يجب أن تكون إلى الله وحده، وليس إلى أي منهج أو مذهب أو جماعة، مهما كان نوعها ومهما كانت قيمتها. فالكثير من الجماعات أو الفرق أصبحت أصناماً تُعبد من دون الله، يعادي فيها المرء ويوالي بناء على مبادئ وأفكار بشرية تخالف شرع الله جملة وتفصيلاً، وبالتالي يتحول الدين إلى مجرد شعار وراية لتزيين صورة هذه الفرقة أو تلك ومن أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من الأنصار والأتباع ليس إلا. والدعوة نوعان: دعوة عامة، ودعوة خاصة. فأما الدعوة العامة؛ فتكون إلى مبادئ الإسلام الواضحة والدخول في دين الله ونبذ الأفكار والمبادئ المخالفة له، فهي نقلة نوعية من دائرة إلى أخرى، ومن منهج حياة إلى آخر، وأهم ما ينبغي الدعوة إليه هو الإيمان بالله والكفر بالطاغوت {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}، ويتجلى ذلك في قوله تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}. هذا هو الهدف الأكبر والغاية العظمى التي يتوخاها الداعية من وراء دعوته. وأما الدعوة الخاصة؛ فتكون إلى الجماعة أو التنظيم الذي ينتمي إليه الداعية، وذلك حتى يتمكن من تطبيق هذا الدين وتبليغ رسالة الاسلام إلى الآخرين، فالجماعة تعتبر الوعاء الذي يجمع طاقات الدعاة وينظمها من أجل القيام بواجب التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، إذ أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن نافلة القول الاتفاق على أن الجماعة لابد لها من أمير أو قيادة، ولابد من توفر عنصر الطاعة، وهي الرابط المتين بين القيادة والقاعدة، وبها يتم العمل الجماعي ويؤتي ثماره. فالجماعة وسيلة لتحقيق الغاية، وهو التمكين لدين الله بالدعوة والحسبة والجهاد، وإذا ما تحولت الجماعة إلى هدف وغاية في حد ذاتها، فينبغي الخروج منها ونصحها من أجل تصحيح مسارها. أما كيفية التعامل مع المدعوين، فالمطلوب من الداعية ومن الجماعة على حد سواء، أن تعرض مبادئ الإسلام على المدعو كما هي، دون نقص ولا زيادة، وسواء رغب المدعو في ذلك أو لم يرغب، فإن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى التنازل عن بعض المبادئ وعرض الدين ناقصاً موافقاً لهوى المدعو حتى يقبله ويرضى عنه، كما تفعل الكثير من التجمعات البدعية اليوم، حيث يدعون إلى إسلام ناقص ناعم موافق لأهواء الناس وتطلعاتهم، لا يطلبون منهم نفقة ولا طاعة ولا هم يحزنون. وتحضرني حادثة بيعة الصحابي ابن الحصين الذي جاء ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينما عرض عليه الإسلام بما فيه النفقة والجهاد، رفض الصحابي أن يبايع واشترط على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبل كل الأركان ما عدى النفقة والجهاد، فنزع النبي يده من يد الصحابي وقال له: (دين لا نفقة فيه ولا جهاد! فبم تدخل الجنة؟)، وحينها استدرك الصحابي وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: مدّ يدك يا رسول الله لأبايعك عليهن كلهن. فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يقبل منه هذه البيعة الناقصة، وكان بإمكانه أن يقول مثلاً؛ "دعني أدخله في الإسلام مؤقتا وفق شروطه هو، ثم بعد ذلك أعرض عليه ما تبقى من بنود وأركان وأحاول إقناعه بقبولها بالتدريج". لم يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم وإنما أراد أن يُدخل الرجل إلى دين الله من بابه الصحيح، حتى يتحمل مسؤوليته كاملة ويدرك جيداً نوع الطريق الذي ينتظره. وهذا ما فعله أيضاً عليه الصلاة والسلام مع باقي الصحابة - خاصة في المرحلة المكية كما سنرى ذلك لاحقاً في هذا البحث - حيث كان يشترط عليهم أن يبايعوه ويدخلوا في الإسلام، ويقولون: (وماذا لنا إن نحن بايعناك يا رسول الله؟)، فيقول: (ولكم الجنة). لا يربطهم بمصالح أو إغراءات مادية، ولا يخفي عنهم تبعات الطريق ومشقاتها، بل يوضح لهم منذ البداية ما سيلقونه من عنت ومشقة وتضحيات، حتى يكونوا على بينة من الأمر ويتقدموا بخطى واثقة مسؤولة، ما شاء الله لهم أن يتقدموا، فمنهم من يتساقط في الطريق، ومنهم من يثبت ويواصل المسير، ومنهم من يقضي نحبه شهيداً قبل أن يرى النصر والتمكين. هذه هي الدعوة، وهذا هو الطريق إليها، وهؤلاء هم الثابتون عليها من الدعاة والمدعوين، نسأل الله الثبات والاستقامة. الجهرية أم السرية ؟ في البداية أود أن أذكر بأن هدف الدعوة هو تعبيد الناس لربهم وذلك بإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده - كما عبر بذلك الصحابي ربعي بن عامر لقائد الفرس - ومن جور الأديان والمذاهب الدنيوية الظالمة الناقصة إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ورأينا - فيما سبق- أن الدعوة نوعان: دعوة عامة ودعوة خاصة، فالدعوة العامة لا تحتاج منا اليوم إلى سرية أو تخفي، فالكل مطالب بممارستها علانية، ولا ينبغي أن يخاف في ذلك لومة لائم، ولا يمكن أن تسقط عنا إلا بسقوط إيماننا، فالإسلام هو العنوان العريض واللافتة الكبرى التي ينبغي على كل أحد أن يرفع في حركته وسكنته، في سره وجهره، في سفره وحضره، في سلمه وحربه، أو كما عبر الله سبحانه في كتابه الكريم {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}. وأما الدعوة الخاصة، فإنها تكون إلى الجماعة أو التنظيم الذي ينتمي إليه المسلم، لكي يحقق عبادة الله عز وجل، وحتى يتمكن من القيام بعبادات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله على أحسن وجه. والتنظيم أو العمل الجماعي يختلف من تجمع إلى آخر؛ فهناك التجمعات التي تمارس الدعوة في نطاق محدود وتدعو إلى بعض مكارم الأخلاق والالتزام ببعض العبادات المحدودة التي لا تقض مضاجع الطغاة ولا تهتم بشؤون الحكم، أو تهتم بها من باب النصيحة والترقيع، وتسعى إلى تجميع الناس في صفوفها لكي تظهر بمظهر القوة فيسمح لها الطاغوت بممارسة العمل السياسي والاعتراف بها إلى جانب الأحزاب السياسية البدعية أو المرتدة، فهذه الجماعات لا تحتاج إلى السرية لكي تدعو الناس للانضمام إلى صفوفها، بل تعلنها جهاراً نهاراً على مرأى ومسمع من الأنظمة الحاكمة والأحزاب القائمة، أنها تسعى إلى المشاركة السياسية وإلى الإصلاح تحت مظلة القوانين الرسمية المعمول بها في البلاد، وأنها لا ولن تستعمل العنف - وهو الجهاد - كوسيلة للوصول إلى الحكم، بل هي من الرافضين والكافرين بهذه الوسيلة الشرعية. فمثل هذه الجماعات تجد الأبواب مشرعة أمامها للدعوة إلى مبادئها ومناهجها البدعية، وبالتالي نجد السلطات المرتدة تغض عنها الطرف وتترك لها المجال للتحرك واستقطاب الشباب من أجل تكبيلهم خوفاً عليهم من الانضمام إلى جماعات العنف والتطرف - كما يسمون الجماعات الجهادية – هذا في الوقت الذي نجد الجهود كلها متحدة من أجل محاربة هذه الجماعات وتشويه صورتها في أعين الناس حتى ينفروا منها كما تنفر الحمر المستنفرة من القسورة. ففي هذه الحالة تجد جماعات الجهاد أنفسها مضطرة للدعوة إلى مبادئها ومناهجها بالسرية، وأحياناً بالسرية المطلقة، خوفاً من أن ينكشف أمرها للطاغوت وهي لا تزال في مراحل الإعداد. فالدعوة والتنظيم كلاهما يتمان في السرية ريثما يتم إعداد القاعدة الصلبة التي تنطلق فيما بعد من أجل الجهر بالدعوة، وهي الدعوة إلى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله عز وجل، ثم إلى تحريض الناس على جهاد هؤلاء المرتدين الذين اغتصبوا حكم الله بالقوة، وجعلوا من أنفسهم آلهة وأرباباً يُعبدون من دون الله ويشرعون قوانين مخالفة لشريعة الرحمن، يفرضونها على الناس بالحديد والنار. أما التنظيم فإنه يتم بطريقة سرية - في جميع مراحل العمل - حتى بعد مرحلة التمكين، وهو ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالسر والكتمان)، وقد كان عليه الصلاة والسلام يطبق هذه النصيحة والقاعدة الأمنية في حياته كلها، خاصة في غزواته، حيث كان يموه دائماً على العدو وجهة خروجه وحتى وقت هجومه. فنحن يجب أن نعتبر أنفسنا في حرب مفتوحة مع أعدائنا، والحرب خدعة، وهي تستلزم السرية المطلقة في التحرك والتنظيم، ومزيج من السرية والجهرية في الدعوة والاستقطاب، وسط بين أولئك الذين ميعوا الدعوة ففتحوا الأبواب لكل من هب ودب دون شروط ولا مراقبة، فرأينا بعض المنافقين والعملاء والمندسين يصلون إلى مراكز المسؤولية والتسيير داخل هذه الجماعات، وبين تلك الجماعات التي تعمل في الظلام ولا تؤمن أبداً بالعمل الجهري والعلني في أي وقت من الأوقات، فقزّموا الدعوة وحكموا على جماعتهم بالجمود والتحرك في دائرة صغيرة جداً، فسقطوا في متاهات التفريط كما سقط الفريق الأول في مستنقع الإفراط. فالحق يتطلب منا في بعض الأحيان أن نجهر به، حتى وإن أدى ذلك إلى بعض التضحية وإلى كشف يعض الأسرار، ولا ننسى أبداً أن قول كلمة الحق عند سلطان جائر هو سيد الجهاد، كما أن الذي يموت في سبيل ذلك يعتبر سيد الشهداء، فما بالك بالجهر بالحق في وجه سلطان مرتد استبدل شرع الرحمن بشرع الشيطان، هذا بالإضافة إلى الثمار الكبيرة والعظيمة التي ستدرّها على الدعوة، مصداقاً لقوله تعالى: {ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها في كل حين بإذن ربها}. ولا يفوتني هنا أن أنبه على نقطة هامة في الموضوع، وهي أن القيادة في التجمع هي التي تحدد للفرد كيفية التحرك، وهي التي تختار كذلك الوقت المناسب للعمل العلني أو السري، بناء على معطيات كثيرة وعوامل متعددة، يفرضها الواقع والحركة بهذا الدين، فالأمر ليس نظرياً بحتاً إنما يتغير من ظرف لآخر، ومن مكان إلى آخر، وليس مبنياً على عواطف الناس ودوافعهم الشخصية. هذا والله تعالى أعلم. نسأله سبحانه أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه واتباع أهله ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه واجتناب أهله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين |
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى