المتاجرة بالأسرى الفلسطينيين
صفحة 1 من اصل 1
المتاجرة بالأسرى الفلسطينيين
[الكاتب: أمير أوغلو] |
جلست أمام شاشة التلفاز أتابع ندوة مفتوحة حول الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام في سجون "إسرائيل"؛ "عدوة السلام والدولة الإرهابية الكبرى في العالم"، وكان إلى جانبي أحد "الأسرى" السابقين في "سجن تدمر" الشهير في "سورية السلام والثورة والعدالة والحرية"، حيث يتمتع المواطن بكل الامتيازات الإنسانية التي لا مثيل لها في الكون كله. وعندما بدأ الحديث يتحول إلى أنواع التعذيب الذي تمارسه السلطات الإسرائيلية مع المعتقلين والمعتقلات الفلسطينيين، أردت أن أعفي صديقي من سماع هذه القصص، حتى لا أنكأ جراحه القديمة التي أعرف أنها لم تندمل بعد، لا الجراح الجسدية ولا الجراح النفسية، فهو قد خرج من السجون السورية اللطيفة كنصف إنسان، بعد عشرين عاماً... بلا تهمة ولا محاكمة! عندما أردت تغيير القناة؛ اعترض صاحبي، وقال: (دعني رجاء أتابع الموضوع)! نزلت عند رغبته وتركت المحطة، وبدأت القصص والمقابلات، ثم وصل اتصال إلى القناة من أحد الأسرى الفلسطينيين... من السجن مباشرة على الهاتف. بدأ صديقي يضحك ويضحك، حتى ظننت أنه قد اختل عقله من المناظر التي رآها والقصص التي سمعها، حولت القناة إلى قناة أخرى لإنقاذه مما هو فيه، فإذا به يغضب ويرجعها غصباً عني. حاولت أن أتكلم معه لأغير الجو العام، فسألته عما يضحكه، ولكنه لم يجب، وتابع باهتمام مقابلة المحطة مع الأسير الفلسطيني الذي كان يصف أنواع العذاب الذي يتعرض له الأسرى، ويناشد العالم والشعوب العربية والحكومات العربية بالعمل على إنقاذهم. انتهت المقابلة، فإذا بصديقي ينفجر فجأة بالبكاء بعد موجة الضحك التي انتابته. ثم التفت إلي قائلاً: (ليتني أمضيت الأعوام العشرين من عمري في سجون "إسرائيل" بدلاً من سجون سورية). بمنتهى الغباء سألته: (لماذا؟). قال: (ألا ترى كيف يستطيع السجين الفلسطيني في "إسرائيل"، الدولة العدوة المحتلة المحاربة، أن يتصل بقناة فضائية خارج "إسرائيل" تعادي "إسرائيل" ليشرح للعالم كله وضعه وأحواله؟! أتعرف أنني يا أخي لم أحظ خلال عشرين سنة من السجن إلا بزيارة واحدة من أهلي، باعوا بيتنا ثمناً لها؟! وحصلت بعدها أنا على أربع وعشرين ساعة من التعذيب المتواصل، لأن السجان لاحظ أنني عدت مسروراً من رؤية أهلي، فأزعجه سروري، فآلى على نفسه أن ينسيني فرحة تلك الزيارة فوراً، هل تعلم أن أحد إخوتنا المساجين دفع حياته ثمنا لزيارة أهله اليتيمة له؟! لقد ساء السجان أن يرجع أخونا مستبشراً من الزيارة، فضربه بكعب البندقية، فارتطم رأسه بالجدار وخر صريعاً قبل أن يعود إلينا في المهجع). قلت له: (لكن ألا ترى كيف يعذبون ويضربون عن الطعام ولا يستجيب لهم أحد؟). قال: (أتعرف أننا كنا في إضراب إجباري عن الطعام لمدة أعوام؟! أتعرف أننا كنا نحصل في تدمر على بيضة واحدة لكل ثمانية أفراد كل أسبوع؟! أتعرف كيف كنا نقسم البيضة؟! كنا نقسمها بالخيط، أتعرف أن البصلة الواحدة كانت تكفينا لأسبوع، وكنا نقشرها قشرة قشرة ونعطي كل واحد قسماً من القشرة؟! أتسمع هذا الذي يتأفف من نظافة المراحيض في السجون الإسرائيلية؟! أتعرف أننا أمضينا الأشهر الستة الأولى لا نخرج من المهجع للتبول ولا للتغوط ولا للاغتسال؟! علماً بأننا كنا مائتي سجين في غرفة لا تتسع لأكثرمن ثلاثين سجيناً على الأكثر). طالت السهرة بعد هذا، وكان حديثاً ذا شجون لا أستطيع البوح به كله، لأنني متأكد أنه لن ينشر ولا في موقع على الشبكة، وستنطلق أبواق الإعلام السوري لتصنفني ضمن خانة العمل مع "إسرائيل" ضد "صمود سورية التاريخي"، و "وقوفها في وجه المخططات الصهيونية والإمبريالية"، وتصفني بـ "الخيانة والعمالة والانبطاح والزئبقية"... إلى آخر ما هنالك من كلمات في قاموس "البعث العربي الاشتراكي". ازدردت آلامي في صمت، ولم أحاول أن أكتب شيئاً في الموضوع، ولكن بعد أيام ظهرت الكاتبة الكبيرة؛ الوزيرة الشهيرة التي تعمل في جرائد العالم العربي والغربي أكثر من عملها في الوزارة التي تتعيش منها، لتكتب كالعادة عن الأسرى الفلسطينيين في إحدى أكبر جرائد المنطقة، وبدأت بذرف الدموع على عذابات الأسرى وأهليهم، واستجداء العالم للعطف عليهم والتذكير بمأساتهم، فكانت مقالتها الدافع لي لكتابة هذه المقالة، لا لأرد عليها، لأنني أعرف أنه لا حياة لمن تنادي، ولكن لعل أحد المغترين يعرف بما تكتب جزءاً من الحقيقة... كان بإمكان السيدة الوزيرة أن تحذف كلمة "إسرائيل" وتضع بدلاً منها سورية في كل المقال، ليكون المقال صورة ناقصة، عما حدث في سجون سورية، وما يحدث فيها منذ أربعين سنة وحتى اليوم. كان بإمكان السيدة الوزيرة أن تشرح لنا كيف يستطيع "المعتقل" السوري أن يوصل صوته إلى العالم، بدل أن تحدثنا عن تقصير الإعلام العربي والغربي في نقل صورة ما يحصل للأسير الفلسطيني، وهي أدرى بما يحدث في سورية. كان بإمكان السيدة الوزيرة أن تحدثنا عن كيفية وصول "المعتقل" السوري إلى المستشفى ومتى يحصل هذا، وهل يتم النقل بعد الدفن أم قبل الدفن؟ وهل هناك طبيب في "سجن تدمر"، أو ما هي الأدوية المتوفرة فيه مثلاً، بدل الحديث عن أن المجرم العنصري ووزير الصحة الإسرائيلي قرر عدم نقل الأسرى الفلسطينيين إلى المستشفيات ولو ساءت حالتهم. فأين كان وزير الصحة السوري يا سيدتي عندما كنا في "تدمر"، وهل يعرف أن كل "الأسرى" مصابين بالسل والقمل وجميع الأمراض التي يعرفها الناس والتي لا يعرفونها؟ كان بإمكان السيدة الوزيرة المثقفة؛ أن ترد على وسام الاستحقاق الذي علقه الكاتب حسنين هيكل على صدر "سورية الثورة"، عندما أعلن بأن أمريكا ترسل المعتقلين "الصعبين" إلى سورية، لتستفيد من خبراتها في التعذيب وانتزاع الاعترافات. لا داعي ولا فائدة من الرد على كل ما قالته السيدة الوزيرة، فهي لا تقرأ إلا ما تحب ولا تكتب إلا ما "تحبه حكومتها"، والصحف التي تكتب هي فيها لا تنشر أصلاً لمن يرد عليها. لقد عرف الناس في كل العصور وكل الحكومات أنواعاً من "التضليل" تتجاوز بكثير كتابات السيدة الوزيرة، وهذا مرض تعاني منه كل الشعوب. والنفاق لم يولد في عصرنا ولا في بلادنا، وليست له حدود تاريخية ولا جغرافية، فهو مرض نفسي تكلمت عنه كل الديانات وحذرت منه جميع الرسالات السماوية، ولكن ليس معنى هذا أن يزول النفاق أو يتوقف الرياء؛ طالما أنه وسيلة للعيش والتكسب والوصول إلى المناصب العليا، تماماً كالبغاء الذي تستنكره كل الأديان، ولكنه لن يتوقف طالما أنه مدفوع الأجر. في الختام... أتوجه باسمي وباسم صديقي السجين السابق وباسم جميع السجناء الحاليين؛ بنداء إلى الرئيس الشاب بشار الأسد؛ أن يعامل "المعتقلين" في بلدنا الحبيب سورية كما يعامل الإسرائيليون الأسرى الفلسطينيين، فلعلنا نسمع بأسمائهم على الأقل من إحدى المحطات الفضائية العربية، وحبذا لو كانت الفضائية السورية نفسها. |
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى