أوراق من دفتر سجين
صفحة 1 من اصل 1
أوراق من دفتر سجين
ثبّتك الله.. يا أبا معاذ.. فما هي وربي.. إلا أيام
أوراق من دفتر سجين
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
تبدأ الحكاية هكذا ..
صعلوكان يطلان على شارف .. يتخيّران بيتا يعجبهما شكله من بين سائر البيوت .. ثم يتجهان إليه ..
المسألة عندهم غاية في السهولة ، وليست محفوفة بالمخاطر .. فالصيد غالبا ضعيف .. فهما لا يصطادان إلا في الصباح عندما يكون الرجال في أعمالهم .. وإن فجأهما رجل في بيته ، فخط الرجعة سهل محسوب ، فما هو إلا أن يسألانه عن أي اسم في الخاطر ، ثم يعتذران بلباقة ؛ أنهما قد غلطا بالعنوان وينسحبا بهدوء .. لا بد من الحيلة .. فأسلحتهما لا تؤهلهما لمواجهة الأقوياء ؛ فهي لا تتعدى بعض المدي ..
طرقا باب البيت الذي وقع عليه الإختيار ..
ولم يكن كلاهما يعرف أن هذا الباب سيغلق عليه أشباك السجن وقضبانه الغلاظ ، إلى خمس عشرة سنة .. عندما أشهرا مديهما في وجه المرأة لم يكن في بالهما ومخططهما أكثر من السرقة والسلب .. يأخذان ما خف وزنه وعظم ثمنه .. لكن يشاء الله ولحكمة بالغة ، أن يمتحنهما بصيد سهل تناله أيديهما .. فيسقطان ..
فبينما أحدهما يفتش ويبعثر في أغراض البيت هنا وهناك … إذ عثر على (مسدس ) فأمسك به وهزه مزهوا ، ينظر إلى المرأة .. إنها رفقة السوء ، يا أبا معاذ .. أليس قد قيل ؛ ( الصاحب ساحب ) ، فها قد سحبك رفيق السوء معه إلى غياهب السجن خمسة عشر عاما ..
فما أسرع ان لعب الشيطان بعقليهما لما رأياها تلوذ بصغارها خائفة ، وهم يتصايحون ويبكون .. تقول : ( خذوا كل ما تريدون واتركوني ..) ، إنّ شيئاً مما خافته لم يكن في مخططها ، ولكن كم قد نبهت الطيور الصياد ، بعد إذ كان غافلا .. إنها شهوة الحيوان ، تتسلط على من تجرد من خشية الرحمن ، فضعف فيه وازع الإيمان .. وكان ما كان ..
كانت هذه البداية .. شهوة لحظات ونزوة عابرة يتخللها الخوف والرعب والارتباك .. حكم الاثنان لأجلها بعقوبة السلب والاغتصاب ..
ولما كانت عقوبة الاغتصاب هي الأكبر ؛ لزمهما اسمها وصنفها في مهاجع السجن بها ..
ولنوع القضية في عالم السجون أثر وأهمية وله سمعته بحسب القضية ، فهاهنا التهم أشكال وأنواع .. منها الرفيع ومنها الوضيع ، يتفاخر أو يتصاغر بحسبها السجناء ..
ويعلوا بعضهم على بعض بها .. ويتخذ بعضهم بعضا سخريا .. وتمر الأيام والشهور ؛ ويبدأ الشيب بغزو رأس صاحبنا .
إنه السجن مقبرة الأحياء .. يقول بعض من جربه :
خرجنا من الدنيـا ونحن من أهلها فلسنا من الأحـياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السـجـان يوما بحاجة عجبنا وقلنا جـاء هذا من الدنيا
وتعجـبنا الرؤيا فجل حـديثنا إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطات وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى
إلى الله نشكوا إنه موضع الشكوى وفي يده كشـف المصيبة والبلوى
إنه السجن يا صحبي .. إما أن يكسر .. أو يعصر.. أو يثمر .. إن لم يدخله المرء برصيد إيماني ، فهو في عداد الأموات ..
وفي أمثال هؤلاء قال الله تعالى : (( أموات غير أحياء ولا يشعرون أيّان يبعثون ))
وإن لم يتعلم منه أو يحيى قلبه فيه ، فسينتقل من مقبرة إلى مقبرة ، ومن موت فيه إلى موت آخر في البرزخ .. ثم في الآخرة .. حياته في سجين التي ليست كهذه السجون ..
وأيّ حياة تلك التي سيحياها في سجين ؟ إنها حياة شر من الموت .. لا يستشعر فيها إلا الألم والعذاب والندامة والحسرات ؛ فالموت خير منها ، ولذلك فإن كل من يدخلها يتمنى الموت ويدعو ثبورا ، لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ، وادعوا ثبورا كثيرا ..
وتمر أيام السجن وأسابيعه .. والشهور والسنون تترى .. بتكرار مميت .. ليس فيه أي جديد ..
ويضيع العمر .. فما العمر إلا أيام ، إن ذهب يوم ذهب بعض المرء ؛ كما قال الحسن البصري رحمه الله .. وصدق في ذلك .. فقد قال الله تبارك تعالى : (( والعصر ، إن الإنسان لفي خسر ..)) أجل إن الإنسان لفي خسارة وخسران دائم .. إن لم يتداركه الله تعالى برحمة منه ..
وفجأة وفي بعض أيام تلك السنين العجاف بل الميتة .. يفيق صاحبنا من سباته ويصحو من غفلاته ، فتلمع عيناه ويشرق وجهه بنور الإيمان وتنقلب حياته .. وتتغير أحواله فيحيا قلبه ويولد من جديد بلقيى بعض إخوة التوحيد .. وما أكثرهم في زماننا في السجون ، لقي منهم وعايش في السجن أفواجا وأفواجا، زرفات ووحدانا .. تخرج طائفة ، لتخلفها أخرى رأى فيهم عزة الإيمان وتميّز المنهج وصفاء العقيدة ، وابتلاءاتهم متنوعة ، وأحكام سجن كثير منهم كبيرة كحكمه بل بعضها أشد وأقسى .. ومع ذلك فمعنوياتهم عالية وجباههم أعلى لا يطأطئوون الرأس لغير الله ، ولا يعطون الدنية في دينهم .. يتهمونهم بالتطرف والإرهاب والتخريب ، وهم يصرّون إن سئلوا في أي وقت عن قضاياهم أو تهمهم أن يوحّدوها ويقولوا هي لا إله إلا الله ) .. ثم يبينون ذلك ويشرحونه بحجج ناصعة وبراهين واضحة .. لا يبالون بعساكر السجن أو ضباطه وجلاديه .. ولا يأبهون بأوامرهم أو يلتفتون إلىعجرفتهم .. وقد اعتاد العساكر فضلا عن الضباط أن يقف وينتصب لهم السجناء احتراما عند دخولهم المهاجع كل يوم للتفتيش الصباحي المعتاد .. فضاقوا ذرعا وامتلأت صدورهم غيظا لعدم مبالات أولئك الموحدين بهم .. أو تعظيمهم لهم كما يفعل سائر السجناء .. فهم لا يتعاطون السلام والتحية معهم ، فضلا عن الوقوف لهم أو التعظيم ، فانقطعوا بعد عن التفتيش والدخول عليهم إلا ما ندر ، فقد كانوا يحرجون أمام عساكرهم حين يدخلون على أولئك الموحدين ، فلا يأبه الموحدون بدخولهم إليهم أو يتركون ما هم فيه من قراءة أو درس أو غيره .. ولا يلتفتون إليهم أو يقومون أو يهشون كما يفعل غيرهم ..
صارحوهم بأنهم برءاؤ منهم ما بقوا جندا للقانون ، وحراسا للشرك ، وجاهروهم بالتبري منهم ومن قوانينهم وطواغيتهم وأربابهم المشرعين ، قطعوا معهم العلائق إلا علاقة الدعوة والبلاغ ، وفصموا كل الوشائج فلا مودة بينهم وبين أولئك الأجناد ، ولا عشيرة ولا جنسية ولا وطنية تجمعهم بهم ، بل كل ذلك مبتور ماداموا قد هدموا التوحيد ، ونصروا وحرسوا وأقاموا الشرك والتنديد .. (( هذان خصمان اختصموا في ربهم ..)) فهم في عدوتين مختلفتين .. قد بدت العداوة والبغضاء بينهم ، وظهرت وبانت ، جاهروهم بها حتى يؤمنوا بالله وحده .. ((فإذا هم فريقان يختصمون.. ))
وفي السجن اعتاد السجانون والضباط أن يعيّروا السجناء بقضاياهم ويعظونهم ويدعونهم إلى التوبة كموعظة الذئاب للحملان ..
ولذلك تراهم يعلقون في كل زاوية من زوايا السجن آية قرآنية أو حديثا نبويا ، يحث على التوبة من الخطايا والذنوب .. يوجهون ذلك إلى السجناء وينسون خطيئتهم الكبرى التي تفرعت منها وعنها غالب خطايا السجناء .
أما مع إخوة التوحيد .. فقد كانوا يتصاغرون .. ويطأطؤون الرؤوس .. بل ينهزمون ويلوذون بأعذارهم الواهية ، عندما ينكر عليهم الإخوة باطلهم ، ويبيّنون لهم شركهم ، ويدعونهم هم للتوبة إلى الله ، والبراءة من شركهم وإفكهم وزورهم وباطلهم .. ويبينون لهم أن خطايا وجرائم أكثر السجناء ، ما هي في الحقيقة إلا فروع وآثار لجريمتهم النكراء ، المتمثلة بتعطيل شرع الله وتقديم زبالة قوانين الشرق والغرب عليه ، فأهلكوا بذلك الحرث والنسل ، ونشروا الفساد والكفر والضلال في البلاد والعباد .
لقد اعتاد صاحبنا أن يكون الواعظ دوما في السجن من أولئك الذئاب .. فمنهم السجان والقاضي والمحامي والواعظ والخصم والحكم ..
ثم لما أفاق من غفلته .. وفقه حقيقة التوحيد .. وعرف عظم جريمة الشرك ، علم من أولى بالوعظ والزجر والدعوة إلى التوبة والبراءة من الذنب .. فقد علّمه إخوة التوحيد أن أعظم الذنوب ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) ، رواه مسلم ، والقوم قد جعلوا لله أندادا متشاكسين ، واتخذوا مع الله أربابا متفرقين ، شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، فكانوا بذلك مشركين .
فجريمتهم تفوق كل جريمة .. فأين السرقة وشرب الخمر والزنا أو الاغتصاب .. ونحوه من الجرائم من جريمة الشرك ، الذي هو رأس الجرائم ومحبط الأعمال ..؟ قال تبارك و تعالى : (( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)) .
وقال تبارك وتعالى : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) ..
وما هي إلا أن وجد صاحبنا نفسه تنجذب إلى أولئك الأخيار ، فهم القوم إن شاء الله ؛ لا يشقى جليسهم انحاز إليهم يصلي الجمعة معهم ، وترك الصلاة خلف الضابط الذي يؤم في مسجد السجن .. ويتلطف ليأخذ منهم ما يكتبون .. يقرأه ويقرئه من يثق بهم ..
إذ لإدارة السجن بين السجناء أذناب .. وهو في جاهليته قد تعلم الحذر منهم .. وهو أولى بالحذر الآن .. فكيد أعداء الله بالموحدين ومن يتصل بهم أشد وأنكى .. رأى بأم عينه كيف يعاقبون ويزنزنون ويؤذون من يصافحهم في ممرات السجن أو أثناء الزيارات ..
فكيف بمن يضبطونه متلبسا بالصلاة عندهم ، أو بسماع دروسهم أو حيازة أوراقهم وكراريسهم المنيرة ..
إن للسجن مسجده وواعظه الضابط الذي يخطب فيه .. فعلام تتركون المسجد ذي المنبر والمحراب والسجاد !! وتصلون مع أولئك السجناء في مهجعهم ..؟؟
لا بد من جواب ..!!
هل في الصلاة خلف راهبنا شك ..؟
أم في خطبته التي يسبح فيها بحمد المليك ويبجل القانون والدستور ضير ..؟؟
فلا بد من جواب .. أو الزنازن والعقاب ..
علام تقرؤون في كراريس وأوراق هؤلاء السجناء التي تسفه أحلام دولتنا وتعري أركانه وتكشف زيف أربابها المشرعين وتفضح قوانينهم وتشريعاتهم..؟؟
حذار .. إنهم مخربون إنهم إرهابيون إنهم تكفيريون .. !!
((إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون ، وإنا لجميع حاذرون )) .
ولكن صاحبنا لا يأبه بذلك التهديد والإرهاب كله .. وينجذب رغم كل الموانع والعوائق والعقبات ، إلى أولئك الغرباء .
وتتساقط بين يديه الحواجز.. حاجزا تلو الآخر ..
تساقط حاجز الخوف .. فقد تعلم منهم ما يسميه العلامة ابن القيم بتجريد الخشية لله أو ( بالخوف أو التعظيم المذهل ) .. وهو أن يعظم الموحد الله ، ويخافه خوفا يملأ جنبات نفسه ويستولي على قلبه بحيث لا يتسع بعد ذلك لأن يتغلغل فيه خوف من سواه ..
فخوف الله جبار السموات والأرض يذهله عن الالتفات إلى خوف أوتعظيم سواه سبحانه ..
إذ كل ما يخشى ويخاف ويدعى من دون الله .. هو في الحقيقة : (ليس بشيء ) كما قال تبارك وتعالى بعد أن ذكر (( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء )) وأنهم : (( كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون )) .
قال سبحانه وتعالى : (( إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم )) .
وتساقط حاجز سمعة القضية ..
فقد علموه أن الإسلام يجب ما قلبه .. وهل كانت سوابق كثير من الصحابة قبل إسلامهم إلا القتل والسلب والنهب والاغتصاب ، ثم ما لبثوا أن صاروا بدين الإسلام وبعزة التوحيد ، قادة الأمم وسادة العباد ، وحازوا بذلك شرف الدنيا والآخرة .. وفتحوا البلاد ودان لهم العباد ، وهاهم اليوم قد صاروا للناس المثل والقدوة والأسوة الحسنة وخير القرون ..
لم يأبه صاحبنا بتلك الحواجز وغيرها فما أحلى الجلوس في تلكم الحلقات ، وما ألذ السماع لآيات الكتاب .. وما أطيب النظر في معالم التوحيد ..
وما هي إلا أيام حتى انقلبت حياة صاحبنا .. وفارق طريق أقرانه وترفع عن سفاسفهم ، وتمثل بقول القائل :
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
عرف أنه ما خلق في هذه الدنيا سدى ولا وجد فيها عبثا .. إنما خلق لغاية عظيمة ، كان في سالف الأيام غافلا عنها .. عرف مصدر عزته وسعادته .. فلم يعد كأكثر الناس في خسر .. بل دخل في جملة من استثناهم الله تبارك وتعالى بقوله : (( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )) ومن ثم لم يعد يبالي بالسجن أويتحسر بمرور العمر وأيامه فيه .. أليست الدنيا كلها سجن المؤمن كما أخبر بذلك الصادق المصدوق .. ؟؟
وما هي الحياة .. ؟ وأي شيء أيامها ؟؟ خاصة إذا ما قورنت بالدار الآخرة وما عند الله ؟ إنه إن يمن الله عليه بنعمة الثبات على هذا الخير العظيم ، ويختم له بذلك .. فيزحزح عن النار ويدخل الجنة فقد فاز ، ثم ماذا ؟ غمسة واحدة في الجنة تنسيه شقاء أعتى السجون .. وإن صار إلى ذلك ، فأي خسر ذاك الذي ناله ..؟
نعم إن الإيمان يحدث في حياة المرء انقلابا هائلا ..
فيقلب المحن إلى منح .. كما يقلب المكروه محبوبا ، ويجعل العذاب عذوبة .. كما يجعل النقم نعما ، وليس ذلك بالتلاعب بالحروف ..
ولكن بالإيمان بالغيب .. والنظر في العواقب والخواتيم وبالصبر والثبات والتمحيص .. حتى يخرج المؤمن منها قد نقي من شوائبه وذنوبه كما يفتن ويصقل الذهب المصفى ..
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعـند اللقـاء ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا سـاعة ثم ينـقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
أي.. والله ما هي إلا ساعة وبعدها فكأنما ما شقي من شقي ، ولا حزن من حزن ، ولا تعب من تعب .
لقد انقلب صاحبنا إلى ليث من ليوث التوحيد وصار سراجا ينير مهجعه بدعوة التوحيد ..
وكم اهتدى على يده من سجناء صاروا نعم الاخوة والدعاة ، وأذكر علجا كان رأسا من رؤوس الكفر والفسوق والعصيان ، يخشاه أكثر من في السجن ، شرح الله صدره لهذه الدعوة المباركة .. وقف بعد اهتدائه للحق ، يعلن لأقرانه الذين يرهبهم جل السجناء بل وكثير من السجانين قائلا :
( اسمعوا !! أنا اليوم هداني الله .. ولا أقبل أن أسمع مسبة الله أو الدين .. ومن سيفعلها سأطأ على شاربه ..) ، كلام يوجهه إلى رؤوس الكفر وأعتى المجرمين .. ولا يبالي ، قوة كانت في الباطل ، أخذ بها الكتاب بقوة ، ثم تراه عندما يسمع آيات الكتاب ودعوة التوحيد يبكي كطفل صغير ..
وكم اهتدى على يدي صاحبنا من أمثاله الكثير، أذكر بعض من اهتدوا على يديه يوما وهم يبشرونني مسرورين ،بأن قرابة الثلاثين في مهجعهم صاروا من المصلين الصالحين .. وأن أغلبهم تحت إمارة أبي معاذ ، ثبتك الله وإخوانك يا أبا معاذ ..
يدخل الضابط وعساكره إلى المهجع صباحا .. في التفتيش اليومي المعتاد ..
فلا ينتصب لهم تعظيما ، في مهجع أبي معاذ إلا القليل ..
إنها ظاهرة جديدة عجيبة ..!!
إنهم يزدرون هذا المهجع وأمثاله لسمعة قضاياه ..
فكيف يتجرأ أصحابه على هذا الصنيع ..؟
الضابط يعرف الرأس الموجه لهؤلاء ..
يقترب منه .. وبطريقة استفزازية يحاول إهانته كما اعتاد في سالف الأيام .. يسأله وهو يعرف الجواب :
- ما قضيتك .. ؟
يجيبه أبو معاذ :- اغتصاب
يسأله مستهزئا :
- ولد أم بنت ..؟
ويأتي الجواب واضحا دون تلعثم ، ودون أن يحسب صاحبه لعواقبه أيّ حساب:
- أياً كان ، فهو أهون من الشرك الذي أنتم فيه ..
ثبتك الله يا أبا معاذ ..
فما هي وربي .. إلا أيام ..
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعـند اللقاء ذا الكد يصبح زائلا
فمـا هـي إلا سـاعة ثم ينقضـي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
سجن سواقة - أبو محمد
سنة 1418 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
أوراق من دفتر سجين
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
تبدأ الحكاية هكذا ..
صعلوكان يطلان على شارف .. يتخيّران بيتا يعجبهما شكله من بين سائر البيوت .. ثم يتجهان إليه ..
المسألة عندهم غاية في السهولة ، وليست محفوفة بالمخاطر .. فالصيد غالبا ضعيف .. فهما لا يصطادان إلا في الصباح عندما يكون الرجال في أعمالهم .. وإن فجأهما رجل في بيته ، فخط الرجعة سهل محسوب ، فما هو إلا أن يسألانه عن أي اسم في الخاطر ، ثم يعتذران بلباقة ؛ أنهما قد غلطا بالعنوان وينسحبا بهدوء .. لا بد من الحيلة .. فأسلحتهما لا تؤهلهما لمواجهة الأقوياء ؛ فهي لا تتعدى بعض المدي ..
طرقا باب البيت الذي وقع عليه الإختيار ..
ولم يكن كلاهما يعرف أن هذا الباب سيغلق عليه أشباك السجن وقضبانه الغلاظ ، إلى خمس عشرة سنة .. عندما أشهرا مديهما في وجه المرأة لم يكن في بالهما ومخططهما أكثر من السرقة والسلب .. يأخذان ما خف وزنه وعظم ثمنه .. لكن يشاء الله ولحكمة بالغة ، أن يمتحنهما بصيد سهل تناله أيديهما .. فيسقطان ..
فبينما أحدهما يفتش ويبعثر في أغراض البيت هنا وهناك … إذ عثر على (مسدس ) فأمسك به وهزه مزهوا ، ينظر إلى المرأة .. إنها رفقة السوء ، يا أبا معاذ .. أليس قد قيل ؛ ( الصاحب ساحب ) ، فها قد سحبك رفيق السوء معه إلى غياهب السجن خمسة عشر عاما ..
فما أسرع ان لعب الشيطان بعقليهما لما رأياها تلوذ بصغارها خائفة ، وهم يتصايحون ويبكون .. تقول : ( خذوا كل ما تريدون واتركوني ..) ، إنّ شيئاً مما خافته لم يكن في مخططها ، ولكن كم قد نبهت الطيور الصياد ، بعد إذ كان غافلا .. إنها شهوة الحيوان ، تتسلط على من تجرد من خشية الرحمن ، فضعف فيه وازع الإيمان .. وكان ما كان ..
كانت هذه البداية .. شهوة لحظات ونزوة عابرة يتخللها الخوف والرعب والارتباك .. حكم الاثنان لأجلها بعقوبة السلب والاغتصاب ..
ولما كانت عقوبة الاغتصاب هي الأكبر ؛ لزمهما اسمها وصنفها في مهاجع السجن بها ..
ولنوع القضية في عالم السجون أثر وأهمية وله سمعته بحسب القضية ، فهاهنا التهم أشكال وأنواع .. منها الرفيع ومنها الوضيع ، يتفاخر أو يتصاغر بحسبها السجناء ..
ويعلوا بعضهم على بعض بها .. ويتخذ بعضهم بعضا سخريا .. وتمر الأيام والشهور ؛ ويبدأ الشيب بغزو رأس صاحبنا .
إنه السجن مقبرة الأحياء .. يقول بعض من جربه :
خرجنا من الدنيـا ونحن من أهلها فلسنا من الأحـياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السـجـان يوما بحاجة عجبنا وقلنا جـاء هذا من الدنيا
وتعجـبنا الرؤيا فجل حـديثنا إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطات وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى
إلى الله نشكوا إنه موضع الشكوى وفي يده كشـف المصيبة والبلوى
إنه السجن يا صحبي .. إما أن يكسر .. أو يعصر.. أو يثمر .. إن لم يدخله المرء برصيد إيماني ، فهو في عداد الأموات ..
وفي أمثال هؤلاء قال الله تعالى : (( أموات غير أحياء ولا يشعرون أيّان يبعثون ))
وإن لم يتعلم منه أو يحيى قلبه فيه ، فسينتقل من مقبرة إلى مقبرة ، ومن موت فيه إلى موت آخر في البرزخ .. ثم في الآخرة .. حياته في سجين التي ليست كهذه السجون ..
وأيّ حياة تلك التي سيحياها في سجين ؟ إنها حياة شر من الموت .. لا يستشعر فيها إلا الألم والعذاب والندامة والحسرات ؛ فالموت خير منها ، ولذلك فإن كل من يدخلها يتمنى الموت ويدعو ثبورا ، لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ، وادعوا ثبورا كثيرا ..
وتمر أيام السجن وأسابيعه .. والشهور والسنون تترى .. بتكرار مميت .. ليس فيه أي جديد ..
ويضيع العمر .. فما العمر إلا أيام ، إن ذهب يوم ذهب بعض المرء ؛ كما قال الحسن البصري رحمه الله .. وصدق في ذلك .. فقد قال الله تبارك تعالى : (( والعصر ، إن الإنسان لفي خسر ..)) أجل إن الإنسان لفي خسارة وخسران دائم .. إن لم يتداركه الله تعالى برحمة منه ..
وفجأة وفي بعض أيام تلك السنين العجاف بل الميتة .. يفيق صاحبنا من سباته ويصحو من غفلاته ، فتلمع عيناه ويشرق وجهه بنور الإيمان وتنقلب حياته .. وتتغير أحواله فيحيا قلبه ويولد من جديد بلقيى بعض إخوة التوحيد .. وما أكثرهم في زماننا في السجون ، لقي منهم وعايش في السجن أفواجا وأفواجا، زرفات ووحدانا .. تخرج طائفة ، لتخلفها أخرى رأى فيهم عزة الإيمان وتميّز المنهج وصفاء العقيدة ، وابتلاءاتهم متنوعة ، وأحكام سجن كثير منهم كبيرة كحكمه بل بعضها أشد وأقسى .. ومع ذلك فمعنوياتهم عالية وجباههم أعلى لا يطأطئوون الرأس لغير الله ، ولا يعطون الدنية في دينهم .. يتهمونهم بالتطرف والإرهاب والتخريب ، وهم يصرّون إن سئلوا في أي وقت عن قضاياهم أو تهمهم أن يوحّدوها ويقولوا هي لا إله إلا الله ) .. ثم يبينون ذلك ويشرحونه بحجج ناصعة وبراهين واضحة .. لا يبالون بعساكر السجن أو ضباطه وجلاديه .. ولا يأبهون بأوامرهم أو يلتفتون إلىعجرفتهم .. وقد اعتاد العساكر فضلا عن الضباط أن يقف وينتصب لهم السجناء احتراما عند دخولهم المهاجع كل يوم للتفتيش الصباحي المعتاد .. فضاقوا ذرعا وامتلأت صدورهم غيظا لعدم مبالات أولئك الموحدين بهم .. أو تعظيمهم لهم كما يفعل سائر السجناء .. فهم لا يتعاطون السلام والتحية معهم ، فضلا عن الوقوف لهم أو التعظيم ، فانقطعوا بعد عن التفتيش والدخول عليهم إلا ما ندر ، فقد كانوا يحرجون أمام عساكرهم حين يدخلون على أولئك الموحدين ، فلا يأبه الموحدون بدخولهم إليهم أو يتركون ما هم فيه من قراءة أو درس أو غيره .. ولا يلتفتون إليهم أو يقومون أو يهشون كما يفعل غيرهم ..
صارحوهم بأنهم برءاؤ منهم ما بقوا جندا للقانون ، وحراسا للشرك ، وجاهروهم بالتبري منهم ومن قوانينهم وطواغيتهم وأربابهم المشرعين ، قطعوا معهم العلائق إلا علاقة الدعوة والبلاغ ، وفصموا كل الوشائج فلا مودة بينهم وبين أولئك الأجناد ، ولا عشيرة ولا جنسية ولا وطنية تجمعهم بهم ، بل كل ذلك مبتور ماداموا قد هدموا التوحيد ، ونصروا وحرسوا وأقاموا الشرك والتنديد .. (( هذان خصمان اختصموا في ربهم ..)) فهم في عدوتين مختلفتين .. قد بدت العداوة والبغضاء بينهم ، وظهرت وبانت ، جاهروهم بها حتى يؤمنوا بالله وحده .. ((فإذا هم فريقان يختصمون.. ))
وفي السجن اعتاد السجانون والضباط أن يعيّروا السجناء بقضاياهم ويعظونهم ويدعونهم إلى التوبة كموعظة الذئاب للحملان ..
ولذلك تراهم يعلقون في كل زاوية من زوايا السجن آية قرآنية أو حديثا نبويا ، يحث على التوبة من الخطايا والذنوب .. يوجهون ذلك إلى السجناء وينسون خطيئتهم الكبرى التي تفرعت منها وعنها غالب خطايا السجناء .
أما مع إخوة التوحيد .. فقد كانوا يتصاغرون .. ويطأطؤون الرؤوس .. بل ينهزمون ويلوذون بأعذارهم الواهية ، عندما ينكر عليهم الإخوة باطلهم ، ويبيّنون لهم شركهم ، ويدعونهم هم للتوبة إلى الله ، والبراءة من شركهم وإفكهم وزورهم وباطلهم .. ويبينون لهم أن خطايا وجرائم أكثر السجناء ، ما هي في الحقيقة إلا فروع وآثار لجريمتهم النكراء ، المتمثلة بتعطيل شرع الله وتقديم زبالة قوانين الشرق والغرب عليه ، فأهلكوا بذلك الحرث والنسل ، ونشروا الفساد والكفر والضلال في البلاد والعباد .
لقد اعتاد صاحبنا أن يكون الواعظ دوما في السجن من أولئك الذئاب .. فمنهم السجان والقاضي والمحامي والواعظ والخصم والحكم ..
ثم لما أفاق من غفلته .. وفقه حقيقة التوحيد .. وعرف عظم جريمة الشرك ، علم من أولى بالوعظ والزجر والدعوة إلى التوبة والبراءة من الذنب .. فقد علّمه إخوة التوحيد أن أعظم الذنوب ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) ، رواه مسلم ، والقوم قد جعلوا لله أندادا متشاكسين ، واتخذوا مع الله أربابا متفرقين ، شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، فكانوا بذلك مشركين .
فجريمتهم تفوق كل جريمة .. فأين السرقة وشرب الخمر والزنا أو الاغتصاب .. ونحوه من الجرائم من جريمة الشرك ، الذي هو رأس الجرائم ومحبط الأعمال ..؟ قال تبارك و تعالى : (( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)) .
وقال تبارك وتعالى : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) ..
وما هي إلا أن وجد صاحبنا نفسه تنجذب إلى أولئك الأخيار ، فهم القوم إن شاء الله ؛ لا يشقى جليسهم انحاز إليهم يصلي الجمعة معهم ، وترك الصلاة خلف الضابط الذي يؤم في مسجد السجن .. ويتلطف ليأخذ منهم ما يكتبون .. يقرأه ويقرئه من يثق بهم ..
إذ لإدارة السجن بين السجناء أذناب .. وهو في جاهليته قد تعلم الحذر منهم .. وهو أولى بالحذر الآن .. فكيد أعداء الله بالموحدين ومن يتصل بهم أشد وأنكى .. رأى بأم عينه كيف يعاقبون ويزنزنون ويؤذون من يصافحهم في ممرات السجن أو أثناء الزيارات ..
فكيف بمن يضبطونه متلبسا بالصلاة عندهم ، أو بسماع دروسهم أو حيازة أوراقهم وكراريسهم المنيرة ..
إن للسجن مسجده وواعظه الضابط الذي يخطب فيه .. فعلام تتركون المسجد ذي المنبر والمحراب والسجاد !! وتصلون مع أولئك السجناء في مهجعهم ..؟؟
لا بد من جواب ..!!
هل في الصلاة خلف راهبنا شك ..؟
أم في خطبته التي يسبح فيها بحمد المليك ويبجل القانون والدستور ضير ..؟؟
فلا بد من جواب .. أو الزنازن والعقاب ..
علام تقرؤون في كراريس وأوراق هؤلاء السجناء التي تسفه أحلام دولتنا وتعري أركانه وتكشف زيف أربابها المشرعين وتفضح قوانينهم وتشريعاتهم..؟؟
حذار .. إنهم مخربون إنهم إرهابيون إنهم تكفيريون .. !!
((إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون ، وإنا لجميع حاذرون )) .
ولكن صاحبنا لا يأبه بذلك التهديد والإرهاب كله .. وينجذب رغم كل الموانع والعوائق والعقبات ، إلى أولئك الغرباء .
وتتساقط بين يديه الحواجز.. حاجزا تلو الآخر ..
تساقط حاجز الخوف .. فقد تعلم منهم ما يسميه العلامة ابن القيم بتجريد الخشية لله أو ( بالخوف أو التعظيم المذهل ) .. وهو أن يعظم الموحد الله ، ويخافه خوفا يملأ جنبات نفسه ويستولي على قلبه بحيث لا يتسع بعد ذلك لأن يتغلغل فيه خوف من سواه ..
فخوف الله جبار السموات والأرض يذهله عن الالتفات إلى خوف أوتعظيم سواه سبحانه ..
إذ كل ما يخشى ويخاف ويدعى من دون الله .. هو في الحقيقة : (ليس بشيء ) كما قال تبارك وتعالى بعد أن ذكر (( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء )) وأنهم : (( كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون )) .
قال سبحانه وتعالى : (( إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم )) .
وتساقط حاجز سمعة القضية ..
فقد علموه أن الإسلام يجب ما قلبه .. وهل كانت سوابق كثير من الصحابة قبل إسلامهم إلا القتل والسلب والنهب والاغتصاب ، ثم ما لبثوا أن صاروا بدين الإسلام وبعزة التوحيد ، قادة الأمم وسادة العباد ، وحازوا بذلك شرف الدنيا والآخرة .. وفتحوا البلاد ودان لهم العباد ، وهاهم اليوم قد صاروا للناس المثل والقدوة والأسوة الحسنة وخير القرون ..
لم يأبه صاحبنا بتلك الحواجز وغيرها فما أحلى الجلوس في تلكم الحلقات ، وما ألذ السماع لآيات الكتاب .. وما أطيب النظر في معالم التوحيد ..
وما هي إلا أيام حتى انقلبت حياة صاحبنا .. وفارق طريق أقرانه وترفع عن سفاسفهم ، وتمثل بقول القائل :
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
عرف أنه ما خلق في هذه الدنيا سدى ولا وجد فيها عبثا .. إنما خلق لغاية عظيمة ، كان في سالف الأيام غافلا عنها .. عرف مصدر عزته وسعادته .. فلم يعد كأكثر الناس في خسر .. بل دخل في جملة من استثناهم الله تبارك وتعالى بقوله : (( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )) ومن ثم لم يعد يبالي بالسجن أويتحسر بمرور العمر وأيامه فيه .. أليست الدنيا كلها سجن المؤمن كما أخبر بذلك الصادق المصدوق .. ؟؟
وما هي الحياة .. ؟ وأي شيء أيامها ؟؟ خاصة إذا ما قورنت بالدار الآخرة وما عند الله ؟ إنه إن يمن الله عليه بنعمة الثبات على هذا الخير العظيم ، ويختم له بذلك .. فيزحزح عن النار ويدخل الجنة فقد فاز ، ثم ماذا ؟ غمسة واحدة في الجنة تنسيه شقاء أعتى السجون .. وإن صار إلى ذلك ، فأي خسر ذاك الذي ناله ..؟
نعم إن الإيمان يحدث في حياة المرء انقلابا هائلا ..
فيقلب المحن إلى منح .. كما يقلب المكروه محبوبا ، ويجعل العذاب عذوبة .. كما يجعل النقم نعما ، وليس ذلك بالتلاعب بالحروف ..
ولكن بالإيمان بالغيب .. والنظر في العواقب والخواتيم وبالصبر والثبات والتمحيص .. حتى يخرج المؤمن منها قد نقي من شوائبه وذنوبه كما يفتن ويصقل الذهب المصفى ..
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعـند اللقـاء ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا سـاعة ثم ينـقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
أي.. والله ما هي إلا ساعة وبعدها فكأنما ما شقي من شقي ، ولا حزن من حزن ، ولا تعب من تعب .
لقد انقلب صاحبنا إلى ليث من ليوث التوحيد وصار سراجا ينير مهجعه بدعوة التوحيد ..
وكم اهتدى على يده من سجناء صاروا نعم الاخوة والدعاة ، وأذكر علجا كان رأسا من رؤوس الكفر والفسوق والعصيان ، يخشاه أكثر من في السجن ، شرح الله صدره لهذه الدعوة المباركة .. وقف بعد اهتدائه للحق ، يعلن لأقرانه الذين يرهبهم جل السجناء بل وكثير من السجانين قائلا :
( اسمعوا !! أنا اليوم هداني الله .. ولا أقبل أن أسمع مسبة الله أو الدين .. ومن سيفعلها سأطأ على شاربه ..) ، كلام يوجهه إلى رؤوس الكفر وأعتى المجرمين .. ولا يبالي ، قوة كانت في الباطل ، أخذ بها الكتاب بقوة ، ثم تراه عندما يسمع آيات الكتاب ودعوة التوحيد يبكي كطفل صغير ..
وكم اهتدى على يدي صاحبنا من أمثاله الكثير، أذكر بعض من اهتدوا على يديه يوما وهم يبشرونني مسرورين ،بأن قرابة الثلاثين في مهجعهم صاروا من المصلين الصالحين .. وأن أغلبهم تحت إمارة أبي معاذ ، ثبتك الله وإخوانك يا أبا معاذ ..
يدخل الضابط وعساكره إلى المهجع صباحا .. في التفتيش اليومي المعتاد ..
فلا ينتصب لهم تعظيما ، في مهجع أبي معاذ إلا القليل ..
إنها ظاهرة جديدة عجيبة ..!!
إنهم يزدرون هذا المهجع وأمثاله لسمعة قضاياه ..
فكيف يتجرأ أصحابه على هذا الصنيع ..؟
الضابط يعرف الرأس الموجه لهؤلاء ..
يقترب منه .. وبطريقة استفزازية يحاول إهانته كما اعتاد في سالف الأيام .. يسأله وهو يعرف الجواب :
- ما قضيتك .. ؟
يجيبه أبو معاذ :- اغتصاب
يسأله مستهزئا :
- ولد أم بنت ..؟
ويأتي الجواب واضحا دون تلعثم ، ودون أن يحسب صاحبه لعواقبه أيّ حساب:
- أياً كان ، فهو أهون من الشرك الذي أنتم فيه ..
ثبتك الله يا أبا معاذ ..
فما هي وربي .. إلا أيام ..
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعـند اللقاء ذا الكد يصبح زائلا
فمـا هـي إلا سـاعة ثم ينقضـي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
سجن سواقة - أبو محمد
سنة 1418 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى